أحمد حلمي .. واقع المواطن المصري عسل لكنه أسود
قالوا عنه أمير البهجة, وزعيم مدرسة البساطة في الأداء, لأنه استطاع بموهبته الكبيرة, أن يتحول من مجرد ممثل كوميدي في أولي بطولاته المطلقة في فيلم ميدو مشاكل إلي أهم ممثل كوميدي بين أبناء جيله, وأفضلهم,
وذلك بمثابرته واجتهاده وحرصه الدائم المستمر علي تقديم أفكار جديدة ومختلفة, بعيدة عن السائد, وقريبة من قلوب الناس, التي احتلها وتربع بداخلها ليصبح كوميديان الشباب الأول, وجوكر السينما الشبابية, وهذه المكانة وصل إليها, لأنه يحترم فنه, ويحترم عقل جمهوره, ولأنه لم يتعامل مع الكوميديا علي أنه بهلوان أو أراجوز كما يفعل البعض من أبناء جيله أو الأجيال التي سبقته.
وإذا ألقينا نظرة عميقة علي أعمال الفنان أحمد حلمي السابقة, وتحديدا آخر ثلاثة أفلام, بداية من فيلم كده رضا الذي كان بمثابة نقطة تحول في مشواره كممثل حيث برهن من خلاله كيف أنه يستطيع تقديم ثلاث شخصيات في فيلم واحد لثلاثة توائم دون أن يتشابه أو يتلامس أداؤه في كل شخصية من الثلاث وفي هذا الفيلم اكتشفنا إمكانات كبيرة لأحمد حلمي الممثل الموهوب صاحب الطاقات المكبوتة, وبعد فيلم كده رضا فاجأ أحمد حلمي جمهوره بفيلم جديد شكلا ومضمونا وهو فيلم آسف علي الإزعاج الذي قدم من خلاله شخصية مبتكرة في السينما المصر ية.
ورغم أن الفيلم مستوحي من الفيلم الأمريكي abeauti Ful) mind) فإن أيمن بهجت قمر مؤلف الفيلم استطاع أن يقوم بتمصير الفكرة أو التيمة وأضاف إليها بعض التفاصيل, وأحمد حلمي شرب هذه التفاصيل ومن خلال حسه الفني الراقي والعالي استطاع أن يقدم شخصية البطل الذي يعيش مع شخصيات وهمية بجدارة وامتياز, وبعد هذه الخطوة الناجحة قدم لنا أحمد حلمي فيلمه الرائع ألف مبروك ورغم أن فكرته أيضا مستوحاة من فيلم أمريكي بعنوان grand hog day والذي قام ببطولته أندي ماكدويل, بيل موراي, وأخرجه هارولد راميس فإن أحمد حلمي جسد فكرة الفيلم بأسلوب السهل الممتنع فعظمته جاءت من أسلوبه شديد البساطة الذي يتقنه بروعة, ونجح الفيلم وأحبه الجمهور, ليزيد من رصيد نجاحات أحمد حلمي الفنية, وقد تكون من المرات القليلة التي يتفق فيها النقاد مع الجمهور حول براعة ونجاح ممثل إلا أن هذا حدث وباكتساح مع الفنان أحمد حلمي, زعيم مدرسة البساطة في الأداء, وأمير البهجة الشبابية, والذي يقدم لجمهوره وعشاقه هذا العام فيلم عسل أسود الذي يضيف إلي رصيده الفني واحدا من أهم وأروع أفلامه علي الإطلاق, ففي فيلم عسل أسود أحمد حلمي يقترب من آلام وهموم البسطاء دون أن يتخلي عن البهجة, ودون أن يقدم صورة قاتمة متشائمة عن الواقع المصري, ورغم أن فيلم عسل أسود يتحدث عن قضايا وهموم المواطن المصري من خلال شخصية مصري سيد العربي التي جسدها أحمد حلمي بإتقان فإنه لم ينكد علينا مثلما يفعل أو يتعمد أن يفعل الآخرون من صناع السينما بحجة أنهم يقدمون واقعنا المصري, والذي لا أعرف تحديدا سبب تقديمه بشكل متشائم ومؤلم ومضطهد؟!
في فيلم أحمد حلمي عسل أسود تعيش ببساطة قصة شاب يأخذك معه إلي عالمه عبر قصة لطيفة, بسيطة, لا تحتوي علي كلاكيع تروي قصة شاب مصري أمريكي يفكر في زيارة مصر بعد غياب 20 عاما وبالفعل يحمل جواز سفره المصري الذي سيتسبب له فيما بعد في العديد من المفارقات المضحكة لدرجة البكاء, ليكتشف من خلال هذه المواقف مدي تغير المواطن المصري خلال الـ20 عاما الماضية ومدي تغير سلوكه وكيف تحول إلي إنسان فهلوي ونصاب إلا أنه رغم فهلوته واستغلاليته لايزال يتمتع بالدفء والجدعنة والشهامة, وكيف أن العائلة في مصر لايزال لها تأثيرها علي الفرد وكيف أن لمة العيلة تستطيع أن تداوي الكثير من آلام الحياة رغم قسوتها.
ويعد فيلم عسل أسود مجازفة كبيرة أقدم عليها الفنان أحمد حلمي, ولكن بثقة كبيرة في عقليته السينمائية الناضجة التي جعلته يوافق علي الفكرة, وبثقة كبيرة أيضا في جمهوره الذي يثق فيه بدوره ويحب أفلامه, وينتظر منه أعمالا مميزة كل عام هذه الثقة المتبادلة بين أحمد حلمي والجمهور هي ما دفعته لقبول هذه المجازفة والرهان عليها بنجاحه, وتكمن المجازفة هنا في نوعية الفيلم الذي ينتمي إلي الكوميديا السوداء التي تطرح مآسي وهموم الواقع بشكل ساخر من منطلق هم يضحك وقد جازف الفنان أحمد حلمي باختراق المناطق الدرامية المأساوية ووضعها المؤلف والمخرج في عمل واحد في إطار درامي راق وجميل, يتسم بالانسيابية, ورغم طول المدة الزمنية للفيلم إلا أنه خرج في صورة رائعة وقد نجح المخرج خالد مرعي في استعراض الوجه الحقيقي لمصر من خلال تصوير بعض الأحياء الشعبية ووجوه المصريين البسطاء والأماكن السياحية في مصر, بالشكل البديع الذي شاهدناه, وقد صورها بعدسة صادقة وحميمية ليخرج الفيلم في صورة رائعة تتفق وتتناسب مع مضمونه الجيد, ورغم قسوة الحقيقة التي جاءت في الفيلم فإن حقيقة الشعب المصري لمست قلوبنا وأشارت إلي الجرح وطبطبت عليه بحنان فالفيلم يؤكد أنه رغم إحساسنا بالغربة والقهر في مصر ورغم تفاقم الأزمات إلا أن إحساسنا بمصر وكينونتها بداخلنا أقوي وأكبر بكثير من إحساسنا بالحزن والتعاسة والبؤس والظلم والقهر!.
ورغم تسليم المواطن المصري لأقداره التعيسة والتي بدورها أفرزت لنا نماذج مرفوضة في المجتمع المصري مثل الموظف المرتشي الذي طلب من مصري سيد العرب رشوة حتي يساعده في تخليص أوراقه الرسمية بسهولة فإن النموذج المصري الأمريكي للبطل رفض مبدأ الرشوة لأنها وسيلة ملتوية لأخد ما يستحقه من خدمة جيدة في الأساس دون رشوة وبالتالي دفع ثمن عدم استسلامه وهو اللف لأيام وأيام وتأخير أوراقه وتلكؤ الموظف في تخليص أوراقه وللأسف هذا بالفعل ما يحدث في مصر.
أيضا نموذج سائق الميكروباص الاستغلالي والنصاب, يمثل نموذجا مرفوضا في مجتمعنا إلا أنه موجود بل ومنتشر كانتشار النار في الهشيم وهذا النموذج الذي يسعي لاستغلال الضيف والغريب والسائح وحتي ابن البلد المغترب, باعتبار أي من هؤلاء زكيبة فلوس لابد أن يأخذ منها ويذهب قدر المستطاع سواء كان ذلك بالفهلوة أو النصب أو الاستغلال, ليس مهما, المهم هو الفلوس وقد نجح خالد دياب في رسم ملامح هذه الشخصية التي جسدها باقتدار الفنان لطفي لبيب وهو واحد من الفنانين المخضرمين الذين تم اكتشافهم مؤخرا في أفلام الشباب.
أيضا النموذج الثالث الذي يرفضه المجتمع والقانون والعالم هو نموذج الضابط الفاسد الذي يستغل طبيعة عمله ومنصبه في تهديد الناس بدلا من حمايتهم والحفاظ علي حقوقهم بحجة أن الشعب والشرطة في خدمة الوطن ونري هذا النموذج في فيلم عسل أسود حيث يقبض ضابط علي مصري سيد العربي لأنه يصور النيل بدون تصريح! ويحتجزه في القسم ويبرحه ضربا ويرفض الإفراج عنه إلا بضامن, وللأسف هذا ما قد يحدث في الواقع في بعض أقسام الشرطة بحجة أن الشعب والشرطة في خدمة الوطن, هذا الوطن المذبوح والمقهور والمغلوب علي أمره في نظر صناع الفيلم.
وقدم الفيلم نموذجا آخر وهو نموذج العائلة المصرية التي تنتمي للطبقة المطحونة المتوسطة سابقا وهي طبقة الأغلبية الآن وهذه العائلة مكونة من 6 أفراد يعيشون في شقة صغيرة ورغم الزحمة يستضيفون صديق ابنهم مصري سيد العربي لأنه اصبح بلا مأوي بعد ضياع جواز سفره الأمريكي والمصري وضياع نقوده أيضا ونجد أن أم صديقه هي التي تصرف علي البيت من معاش زوجها المرحوم, تصرف بلا كلل أو ملل وتتحمل مسئولية العائلة رغم أن أبناءها شباب وبنات كبار فابنها الكبير صديق مصري الذي قام بدوره الفنان إدوارد عاطل عن العمل ونري أن أحلامه اصطدمت بحائط المستحيل فتحطمت وأخته الكبيرة رغم أنها تزوجت فإنها تقيم هي وزوجها معهم في الشقة نظرا لضيق ذات اليد فأصبح زواجهما مع إيقاف التنفيذ هذه العائلة المصرية تعتمد علي الأم التي قامت بدورها القديرة إنعام سالوسة فهي عامود البيت وقد تعاملت مع مصري كواحد من أبنائها لدرجة أنها أعطته المصروف مثل ابنها الكبير وفي العيد أعطته العيدية, وبالمناسبة مشهد العيدية أبدع أحمد حلمي في تجسيد مشاعر المغترب المشتاق إلي عادات وطنه وعبق الأصالة وشعر مصري مع عائلة صديقه بالدفء الذي افتقده في برد الغربة, وتذوق طعم اللمة التي افتقدها منذ 20 سنة كما أنه اكتشف المعدن الحقيقي للصديق وللجيران.
في فيلم عسل أسود نعيد اكتشاف الوجه الحقيقي لأصالة مصر وشعبها فخالد دياب استطاع أن يقدم أشياء لا يمكن أن تحدث أو أن تجدها في أي مكان سوي مصر مثل اجتماع النساء لعمل كحك العيد وأخذ الصاجات إلي الفرن, وزينة الشوارع في رمضان, وتبادل الأطباق الشهية في رمضان بين الجيران, كما أنه ذكر مزراب البلكونة, وتصليح الأشياء بالخبط عليها بحجر وبنفخها, والقفز من الأتوبيس أثناء سيره, وعربية الفول في الشارع, وكيف أن المصري لو سئل لا يمكن أن يقول ماعرفش! وأكل الفسيخ والرنجة في الأعياد, وغيرها من الأشياء التي تحمل علامة مصرية مسجلة لأنها ببساطة اختراع مصري 100% .
ورغم أن الفيلم طرح قضايا مختلفة ومر عليها بابتسامات ساخرة مثل قضية التعليم, من خلال تعيين مدرسين بلا كفاءة وقضية مياه الشرب الملوثة, والتي لا أعتقد أنه تم إقحامها في الفيلم من أجل الدعاة كما قال البعض لأنها قضية من القضايا المهمة التي عانت وتعاني منها مصر, مثلها مثل قضية المواصلات التي مر عليها خالد دياب مرور الكرام, وقضية فساد الموظفين, وقضايا أخري تناولها من منطلق الكوميديا السوداء وقد نجح خالد دياب وخالد مرعي في رسم أبرز ملامحها إلا أنني لا أتفق مع نهاية الفيلم التي جاءت بشكل خطابي مباشر فلا يجب أن أعيش في مصر لأنني أحبها والعكس, كما أن المؤلف أكد أن المصري يعامل كمواطن درجة ثالثة, في العديد من مواقف الفيلم جاء آخرها في الطائرة حيث تظاهر حلمي بالمرض ورفض الطيار العودة للمطار لأنه مصري لكن عندما أخرج لهم جوازه الأمريكي عادت الطائرة فورا إلي المطار, هذه مبالغة رغم أنها جاءت متسقة مع الخط الدرامي للفيلم.
ولا يمكن أن نغفل في حديثنا عن فيلم عسل أسود تفوق الموسيقار عمر خيرت وكعادته دائما قدم لنا موسيقي تصويرية نابضة بروح مصر, كما جاء صوت المطربة ريهام عبدالحكيم معبرا عن كلمات الأغنية التي جاءت في تترات النهاية ورغم أن فيلم عسل أسود جاء به كثير من الحزن علي حالنا فإنه كان كثير الضحك أيضا وهي معادلة صعبة نجح صناع الفيلم في تحقيقها.